خطورة المجاهرة بالمعاصي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
فإن الذنوب والمعاصي عاقبتها وخيمة في الدنيا والآخرة،
قال تعالى مبينًا أضرارها على العباد: {فَكُلًّا أَخَذْنَا
بِذَنبِهِ ۖ
فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيَظْلِمَهُمْ
وَلَـٰكِن
كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
وأعظم هذه الذنوب المجاهرة بها، ومعناها أن يرتكب الشخص
الإثم علانية، أو يرتكبه سرًّا فيستره الله عز وجل ولكنه يخبر به بعد ذلك مستهينًا
بستر الله له، قال الله تعالى: {لَّا يُحِبُّ اللَّـهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}
[النساء:148]، جاء في تفسيرها: "لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالسوء
من القول، إلا من ظُلِم، فلا يُكره له الجهر به" (تفسير القرطبي: [7/199]).
روى البخاري ومسلم من حديث سالم بن عبدالله، قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلُّ أُمَّتي معافًى إلا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أن
يعمل الرَّجلُ بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة
كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويُصبِح يكشف سترَ الله عنه» (البخاري، ص:
[1173] برقم [6069]، وصحيح مسلم، ص: [1197-1198] برقم: [2990]).
قال ابن حجر: "والمجاهِر هو الذي أظهر معصيتَه،
وكشف ما ستَر الله عليه، فيحدِّث بها، أما (المجاهرون) في الحديث الشريف فيحتمل أن
يكون بمعنى مَن جَهَر بالمعصية وأظهرها، ويحتمل أن يكون المراد الذين يُجاهِر بعضهم
بعضًا بالتحدُّث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكِّد المعنى الأول" (فتح الباري:
[10/487] بتصرف).
ومما سبَق يتضح أن المجاهرة على أنواع
ثلاثة:
1- المجاهرة بمعنى إظهار المعصية، وذلك كما يفعل المُجَّان
والمستهترون بحدود الله، والذي يفعل المعصية جهارًا يرتكب محذورين:
الأول: إظهار المعصية.
الثاني: تلبُّسه بفعْل المجَّان؛ أي: (أهل المجون)،
وهو مذموم شرعًا وعُرفًا.
2- المجاهرة بمعنى إظهار ما ستر الله على العبد من فعله
المعصية؛ كأن يُحدِّث بها تفاخرًا أو استهتارًا بستر الله تعالى، وهؤلاء هم الذين لا
يتمتعون بمعافاة الله عز وجل كحال الشباب الذين يسافرون إلى خارج البلاد، ويرتكب الواحد منهم الفواحش وشرب الخمور، ثم يخبر بهذا
أصدقاء السوء تفاخرًا واستهتارًا بستر الله له.
3- المجاهرة بمعنى أن يجاهر بعض الفسَّاق بعضًا بالتحدث
بالمعاصي (فتح الباري: [10/487]).
قال الامام البخاري رحمه الله :
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا
الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ
عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ
الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ
اللَّهِ عَنْهُ
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه:
قوله: (كل أمتي معافى) بفتح الفاء مقصور اسم مفعول
من العافية وهو إما بمعنى عفا الله عنه وإما سلمه الله وسلم منه.
قوله: (إلا المجاهرين) كذا هو للأكثر وكذا في
رواية مسلم ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم بالنصب.
وفي رواية النسفي " إلا المجاهرون " بالرفع
وعليها شرح ابن بطال وابن التين وقال.
كذا وقع، وصوابه عند البصريين بالنصب، وأجاز الكوفيون
الرفع في الاستثناء المنقطع، كذا قال.
وقال ابن مالك " إلا " على هذا بمعنى
لكن، وعليها خرجوا قراءة ابن كثير وأبي عمرو " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك
" أي لكن امرأتك " أنه مصيبها ما أصابهم " وكذلك هنا المعنى.
المصدر: ملتقى
اهل الحديث وطريق الاسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق