الجمعة، 21 أبريل 2017

نعيم القبر وعذابه
أحوال الموت والبرزخ من الأمور الغيبيَّة التي ثبتَتْ بواسطة النقل لا من طريق العَقل، والعَقل لا  يحيلُها، وحتى لو لم يقرَّ بها العقل فإنَّ الشرع كافٍ في إثباتها ووُجوب اعتِقادها والعمل لها؛ لعِصمة النقل وقُصور العقل، وفيما يلي إشارةٌ إلى جُملةٍ منها، وذلك لما يلي:
لوجود مَن أنكر ذلك
ولمسيس الحاجة إلى تذكير المسلمين به.
ولأنَّ القبر أوَّل مَنازل الآخِرة، فإنَّ الإيمان بما ثبَت في النُّصوص من أحوال الناس في البرزخ بعد الموت إلى قِيام الساعة من تحقيق الإيمان باليوم الآخِر.
حقيقة الموت:
الموت هو مُفارقة رُوح ابن آدم لجسَده إذا استَـكمَل أجله بأيِّ سببٍ قدَّره الله تعالى ومُفارقة الرُّوح للجسَد ليس فَناءً للروح، ولكنَّه انفِصالٌ لها عن البدن بأمر الله تعالى وليس انفِصالًا نهائيًّا، بل لها به نوعُ اتِّصالٍ الله أعلم بكيفيَّته وحقيقته، وتكون أمور البرزخ على الرُّوح أصلًا والبدن تابعٌ لها، حتى ولو تَلاشَى واضمحلَّ وصار رُفاتًا أو تُرابًا، أو تلف بحَرقِه أو نحوه وذُرِّي في الهواء ولم يبقَ له بقيَّة، فإنَّ الروح تبقى وهي التي تتعرَّض للعَذاب أو النعيم، ويصلُ البدنَ حظُّه من ذلك بقُدرة الله تعالى فإنَّ الله تعالى على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لا يعجزه شيء؛ وقد قال تعالى: ﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق: 44].

نعيم القبر وعَذابه:
اتَّفق أهل السُّنَّة والجماعة على ما دلَّت عليه النُّصوص من أنَّ نعيم القبر وعَذابه حقٌّ، وأنَّه يكون للرُّوح والبدَن جميعًا، وهو مُترتِّب على فتنة القبر والسؤال فيه، فمَن ثبَّتَه الله نُعِّم، ومَن أضلَّه عُذِّب. فنعيم الروح أو عَذابها على أحوال:
1- فقد تكون متَّصلةً بالبدن تارةً؛ فيكون النَّعيم أو العَذاب عليهما جميعًا.
2- كما أنَّه قد يكون النعيم أو العَذاب للرُّوح منفصلةً عن الجسد؛ فيكون النعيم أو العَذاب للروح وحدَها تارةً أخرى.

أدلة نعيم القبر وعَذابه:
دلَّت نصوصٌ كثيرةٌ من القُرآن والسُّنَّة على نعيم القبر وعَذابه:
فمن القرآن:
1- قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ [الواقعة: 88، 89] ، وقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة: 92 - 94].
2- وقوله تعالى عن آل فرعون: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46] ، فدلَّت الآية على أنَّهم يُعرَضون على النار غُدُوًّا وعشيًّا قبلَ يوم القيامة، وهو عَذاب البرزخ.
قال ابن كثير رحمه الله: (هذه الآية أصلٌ كبيرٌ في استدلال أهل السُّنَّة على عَذاب القبر)، وقال القرطبي رحمه الله: "الجمهور على أنَّ هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجَّةٌ في تثبيت عَذاب القبر".
3- ومن الأدلة كذلك على عَذاب القبر قوله تعالى عن الكفَّار: ﴿ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة: 101] ، قال مجاهد: أي: بالجوع وعَذاب القبر، قال: ثم يردُّون إلى عَذاب عظيم يوم القيامة، وقد استدلَّ بهذه الآية والتي قبلها البخاريُّ رحمه الله في ترجمة الأحاديث في عَذاب القبر.

ومن السُّنَّة:
1- حديث البراء، وفيه قال - صلى الله عليه وسلم - في المؤمن: "فيُنادِي مُنادٍ من السماء أنْ صدَق عبدي فأفرِشُوه من الجنَّة، وألبِسُوه من الجنَّة، وافتَحوا له بابًا إلى الجنَّة، فيأتيه من رِيحها وطِيبها، ويُفسَح له في قبره مدَّ بصره..."[2].
2- ومن أدلَّة السنَّة على إثبات النعيم أو العَذاب في القبر ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أحدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مقعَدُه بالغَداة والعَشِيِّ، إنْ كان من أهل الجنَّة فمن أهل الجنَّة، وإنْ كان من أهل النار فمن أهل النار، فيُقال: هذا مقعدك حتى يبعَثك الله يوم القيامة"[3].
3- وكذلك ما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله عن أنس رضِي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا ألاَّ تدافَنُوا لدعوتُ الله أنْ يُسمِعكم عَذابَ القبر"[4].
4- وما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال في صاحبي القبرين: "إنهما ليُعذَّبان"[5].
5- وكذلك ما ثبَت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ عامَّة عَذاب القبر من البول"[6]، يعني: من الاستِهانة به، وعدم التنزُّه والتحفُّظ منه.
6- وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذ من عَذاب القبر[7].
وقد أجمع المسلمون على إثبات عَذاب القبر ونعيمه، ولم يُنكِرْه إلا مَن لا فقهَ له ولا أثَر لخِلافه.

فقد أنكَر الملاحدة والفَلاسفة ومَن اتَّبعهم من أهل الكلام نعيمَ وعَذاب القبر؛ لردِّهم الأحاديث الصحيحة فيه، وبدعوى عدًم مٌشاهدته في الدنيا، ويُردُّ عليهم بما يلي:
الأولدلالة الكتاب والسُّنَّة وإجماع السلف عليه.
الثاني: أنَّ أحوال الآخِرة لا تُقاسُ بأحوال الدنيا.
الثالث: وجود أشياء في الدنيا لا تُشاهَد مثل: العقل والرُّوح والكهرباء، فكلُّ هذه يقرُّ العُقَلاء بوجودها ويؤمنون بأثَرها مع أنَّهم لم يُشاهِدوها على هيئتها، فما أخبر الله تعالى به من أمور الغَيْب في البرزخ والآخِرة وفوق السماوات أولى أنْ يُصدَّق به ويُقَرَّ بوجوده، ولو لم يُشاهَدْ؛ ذلك بأنَّ الله هو الحقُّ المبين.


اعداد: هبه محمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق