خطورة الحسد:
إذا كانت الخمرة أم الخبائث، فإن الحسد هو أبو الخبائث، وسيد الكبائر، فهو دافع لكل شر، وطريق لكل جريمة ومنكر. وكم حصل بسببه من المظالم والجرائم، والموبقات والعظائم، والهجر والصدود، والقطيعة والعقوق، وسفك الدماء، وهتك الأعراض، وانتهاك الحرمات، وإتلاف الأموال والمممتلكات، ومنع الحقوق والواجبات.
وكم ابتلي به أناس من أهل الصلاح والإيمان، وينتسبون لبيوت رفيعة القدر والشأن، فكدَّر إيمانهم، وهدَّم بنيانهم، وحملهم على تعدي حدود الله، وظلم عباد الله، فباؤا بغضب من الله وسخط.
ولا أدل على ذلك مما حصل لابني آدم ـ عليه السلام ـ، حيث تحركت عوامل الحسد في نفس قابيل ضد أخيه هابيل، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [المائدة0 3) فحمله الحسد على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه، وأولاهم بالشفقة عليه، ودفع الأذية عنه، وصار إمامًا لكل قاتل بغير حق، وباء بوزر هذه الجريمة الشنعاء، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تقتل نفس ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كفل. من دمها، لأنه أول من سن القتل"ولهذا، قال بعض العلماء الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض: فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل.
ومثل ذلك ما حصل من إخوة يوسف مع يوسف وأخيه، وهم سلالة الأنبياء، ونسل الكرماء، فهم أبناء الكريم بن الكريم بن الكريم، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم أفضل الصلاة والتسليم ـ، فدفعهم الحسد إلى أمور منكرة، ومظالم فاحشة مخزية، {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ* اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ* قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف 8-100]. وفعلوها، فعصوا ربهم وتعدوا حدوده، وعقوا أباهم وكدروا حياته، وظلموا أخاهم وأمعنوا في أذيته، وقطعوا أرحامهم وأفسدوا في الأرض. وإذا كان الظلم ـ على ما سبق بتلك الدرجة من السوء والشؤم، فإن الحسد من أكبر أسبابه، والدواعي إليه. ولذلك أنكر الله ـ تعالى ـ على من يحسدون الناس، ويعترضون على قسمه بين عباده، فقال ـ جل من قائل ـ{ :أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً* أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً[}النساء 53-54] وهاتان الآيتان وردتا في سياق ذم اليهود، وبيان قبح أفعالهم، وخبث صفاتهم، ودلتا على أن الحسد المقيت من أخص سماتهم، فمن اتصف به، فقد شابههم في ذلك. وافتتحت الآية الأولى بقوله{ :أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ }وهذا استفهام إنكار، يدل على النفي، أي: ليس لهم أي نصيب من الملك، بل لله وحده الخلق والأمر، وله المنة والفضل، لأنهم لو كانت بأيديهم خزائن السموات والأرض، لغلبهم الشح والبخل، ومنعهم من العطاء
والبذل، فلم يعطوا الناس قليلاً ولا كثيرًا، ولهذا قال ـ سبحانه ـ{... :لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [}النساء53 ]أي: مقدار النقير على قلته وحقارته، والنقير: هو الشق الذي في ظهر النواة، في قول ابن عباس والأكثرين وهذا كقوله ـ تعالى ـ في آية أخرى{ :قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً[ } الإسراء 100]، أي: خوف أن يذهب ما بأيديكم، مع أنه لا يتصور نفاده، لأن خزائن الله ملأى، لا تغيضها نفقة، وإنما هو من بخلكم وشحكم، ولهذا علل هذا الإمساك بقوله{... :وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً [ }الإسراء 100] أي: بخيلا. والآيات في التحذير من الحسد كثيرة.
وأما الأحاديث، فمنها حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام"فنهى عن كل ما فيه أذية للمسلم، وقطع لحبال المودة به، ومنها الحسد الذي يحمل على التباغض والتدابر، والقطيعة والتهاجر، والظلم والعدوان.
اعداد: منى سالم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق